سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


يقول الحق جل جلاله: {ما كان لنبي أن يكونَ له أسرى} يقبضها {حتى يُثخِنَ} أي: يبالغ {في الأرض}؛ بالقتل حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله. {تُريدون} بقبض الأسارى {عَرَض الدنيا}؛ حطامها بأخذ الفداء منهم، {والله يُريدُ الآخرة} أي: يريد لكم ثواب الآخرة، الذي يدوم ويبقى، أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه، {والله عزيز} يغلب أولياءه على أعدائه، {حكيم} يعلم ما يليق بكمال حالهم ويخصهم بها، كما أمر بالإثخان، ومَنَعَ مِنْ أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخيَّر بينه وبين المنِّ لما تحولت الحال، وصارت الغلبة للمؤمنين.
رُوي أنه عليه الصلاة والسلام أُتِيَ يوم بدر بسَبْعِينَ أسِيراً، فيهم العَبَّاس وعَقيلُ بن أَبي طَالِبٍ، فاستأْذن فِيهِمْ؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه: قَومُكَ وأهلُك، اسْتَبِقهِمْ، لعلَّ الله يَتُوب عَلَيْهِمْ، وخُذْ مِنْهُمْ فدْيةً تُقَوِّي بِها أَصْحَابَكَ. وقال عمر رضي الله عنهم: اضْربْ أعْنَاقَهُمْ، فإنهم أئِمَّةُ الكُفْر وإنَّ الله أغْنَاكَ عَنِ الفِدَاءِ، فمكِّني من فُلاَن لنَسِيبٍ لَهُ ومكِّنَ عَليّاً وحَمْزَةَ مِنْ أخويهما، فَلْنَضْربْ أَعنَاقَهُمْ فلم يَهْو ذلك رسول الله صلى عليه وسلم، وقال: «إنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنَ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تكُونَ أَلْيَنَ من كُلّ لين، وإن الله ليُشَدِّدُ قُلوب رِجَالٍ حتَّى تَكُونَ أَشَدَّ من الحِجَارَةِ، وإن مَثلَكَ يا أَبَا بَكْر مَثَلُ إبراهيم»، قال: {فَمَن تَبِعَنىِ فَإِنَّهُ مِنّىِ وَمَن عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نوح، قال: {رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَىلأَرضِ مِنَ الكَفِرينَ دِيَّاراً} [نوح: 26]. فخيَّر أصحابه، فأخذوا الفداء، فنزلت، فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر يَبْكِيانِ، فقال: يا رسول الله: أخْبِرْنيِ، فَإنْ أجد بُكاء بَكَيْتُ، وإلا تَبَاكيْتُ؟ فقال: «أبكِي على أصْحَابِكَ في أخْذِهُمُ الفداء، ولقد عُرض عليَّ عذابُهم أدْنَى مِنْ هذِهِ الشَّجَرة» لِشَجَرَة قَرِيبَةٍ.
والآية دليل على أن الأنبياء عليهم السلام يجتهدون، وأنه قد يكون الخطأ، ولكن لا يقرون عليه. قاله البيضاوي. قال القشيري: أخَذَ النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر منهم الفداء، وكان ذلك جائزاً لوجوب العصمة، ولكن قتلهم كان أَوْلى. اهـ. وقال ابن عطية: إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم، لا على الفداء؛ لأن الله تعالى قد كان خيَّرهم، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين، كما تقدم في سورة آل عمران. ثم قال: والنبي عليه الصلاة السلام خارج عن ذلك الاستبقاء. انظر تمامه في الحاشية.
فإن قلت: إذا كان الحق تعالى خيَّرهم فكيف عاتبهم، وهم لم يرتكبوا محظوراً؟ فالجواب: أن العتاب تابع لعلو المقام، فالخواص يُعاتبون على المباح، إن كان فعله مرجوحاً، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم في أمر دنيوي، وهو الفداء، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه، ويدل عليه قوله: {تُريدون عَرَض الدنيا}، وهذا إنما كان في بعضهم، وجُلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى في تمام عتابهم: {لولا كتابٌ من الله سبق} أي: لولا حكم الله سبق إثباته في اللوح المحظوظ، وهو ألا يعاقب المخطئ في اجتهاده، أو أنه سيحل لكم الغنائم، أو ما سبق في الأزل من العفو عنكم، {لمسّكم فيما أخذتُم}؛ من الفداء أو من الأسارى، {عذابٌ عظيم}. رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال، حيث نزلت: «لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ»؛ وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان.
ثم أباح لهم الغنائم وأخذ الفداء فقال: {فكلوا مما غنمتُم} من الكفار، ومن جملته: الفدية، فإنها من الغنائم، {حلالاً طيباً} أي: أكلاً حلالاً، فائدته: إزاحة ما وقع في نفوسهم بسبب تلك المعاتبة، أو حرمتها على المتقدمين. رُوي أنه لما عاتبهم أمسكوا عنها حتى نزلت: {فكلوا مما غنمتم}، ووصفة بالطيب؛ تسكيناً لقلوبهم، وزيادة في حليتها. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْساً لِيَ لَمْ يُعْطَهُنَّ أّحّدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: أُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسِيرَةَ شَهْرٍ وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وطهُوراً وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وخُصصتُ بِجَوَامعِ الكلمِ» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى: {واتقوا الله} في مخالفته؛ {إن الله غفور رحيم} أي: يغفر لكم ما فرط، ويرحمكم بإباحة ما حرم على غيركم؛ توسعةً عليكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما ينبغي للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم، عوضاً عن الدنيا، حتى يبالغ في قتل نفسه وتموت، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاة، أو جمع المال، والتمتع بالحظوظ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده، وتعجيل العقوبة له، حتى إذا تداركه الله بلطفه، وسبقت له عناية من ربه، فيقال له حينئذٍ: لولا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم.


قلت: (أسْرى): جمع أسير، ويجمع على أسارى. وقرئ بهما، و{خيراً مما}: اسم تفضيل، وأصله: أًخْيَر، فاستغنى عنه بخير، وكذلك شر؛ أصله: أشر، قال في الكافية:
وغالباً أغناهم خير وشر *** عن قولهم أخيرُ منه وأشر
يقول الحق جل جلاله: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} الذين أخذتم منهم الفداء: {إنْ يعلم اللَّهُ في قلوبكم خيراُ} من الفداء.
رُوي أنها نزلت في العباس رضي الله عنه؛ كلَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد، تركتني أتكففُ قريشاً ما بقيت، فقال له عليه الصلاة والسلام: وأين الذهب الذي دفعتَهُ لأُمِّ الفضلِ وقتَ خُرُوجك، وقلت لها: لا أدْري ما يصيبني في وَجْهي هذا، فإن حَدَثَ بي حدثٌ فهو لك، ولعبدِ الله، وعُبيد الله، والفضل، وقُثَم، قال له وما يُدْريكَ؟ قال: أخبرني به ربي تعالى، قال: فأشهدُ أنكَ صادِقٌ، وأن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله، واللَّهِ لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سَوَادِ اللِّيْلِ.
قال العباس: فأبْدَلَني الله خيراً من ذلك، أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال الذي قدم من البحرين ما لم أقدر على حمله، ولي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم يضرب أي: يتجر في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم، ما أحب أَنَّ لي بها جميعَ أموالِ أهل مكَّة، وأنا أنتظرُ المغفره مِنْ ربكم، يعني: الموعود بقوله تعالى: {وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{وإنْ يُريدوا}؛ الأسارى {خيانتك}؛ بنقض ما عهدوك به، {فقد خانوا الله من قبلُ}؛ بالكفر والمعاصي {فأمْكَنَ منهم} وأمكنك من ناصيتهم، فقُبِضوا وأُسروا ببدر، {والله عليمٌ} لا يخفى عليه شيء، {حكيمٌ} فيما دبر وأمضى.
الإشارة: يقال للفقراء المتوجهين إلى الله، الذين بذلوا أموالهم ومهَجَهم، وقتلوا نفوسهم في طلب محبوبهم: إن يعلم الله في قلوبكم خيراً، كصدق وإخلاص، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس. وهو الغناء الأكبر، والسر الأشهر، الذي هو الفناء في الله، والغيببة عما سواه، وثمرته: المشاهدة التي تصحبها المكالمة، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير، فكل من باع نفسه في طلب هذا فقد ربحت صفقته، وزكت تجارته، مع غفران الذنوب، وتغطية المساوئ والعيوب. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {إن الذين آمنوا وهاجروا} أوطانهم في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنصرة الدين بالجهاد، {وجاهدوا بأموالهم} فصرفوها في الإعداد للجهاد، كالكراع والسلاح، وأنفقوها على المجاريح، {وأنفسهم في سبيل الله}؛ بمباشرة القتال، {والذين آوَوْا} رسول الله ومن هاجر معه، وواسوهم بأموالهم {ونصرُوا} دين الله ورسوله، {أولئك بعضُهم أولياءُ بعض} في التعاون والتناصر، أو في الميراث.
وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب، حتى نسخ بقوله: {وَأُولُوا الأَرحَامِ بَعضُهُم أَولَى بِبعضٍ} [الأحزاب: 6].
ثم ذكر من لم يهاجر فقال: {والذين آمنوا ولم يُهاجِروا ما لكم من ولايتهم من شيء}؛ لا في النصرة، ولا في الميراث، {حتى يُهاجِروا} إليكم، {وإنِ استنصروكم} على المشركين {في} إظهار {الدين فعليكم النصرُ} أي: فواجب عليكم نصرهم وإعانتهم، لئلا يستولي الكفر على الإيمان، {إلا على قوم} كان {بينكم وبينهم} عهد {ميثاق}، فلا تنقضوا عهدهم بنصرهم. فإن الخيانة ليست من شأن أهل الإيمان، {والله بما تعملون بصيرٌ} لا يخفى عليه من أوفى ومن نقص.
{والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعضِ} في الميراث. ويدل بمفهومه، على منع التوراث والمؤازرة بينهم وبين المسلمين. {إلا تفعلُوه} أي: إلا تفعلوه ما أُمرتم به من موالاة المؤمنين ونصرتهم، أو نصرة من استنصر بكم ممن لم يهاجر، {تكن فتنةٌ في الأرضِ}؛ باستيلاء المشركين على المؤمنين، {وفسادٌ كبير} بإحلال المشركين أموال المؤمنين وفروجهم، أو: إلاّ تفعلوا ما أمرتم به من حفظ الميثاق، تكن فتنة في الأرض، فلا يفي أحد بعهد أبداً، وفساد كبير بنهب الأموال والأنفس.
الإشارة: أهل التجريد، ظاهراً وباطناً، هم الذين آمنوا وهاجروا حظوظهم، وجاهدوا نفوسهم بسيوف المخالفة وآوَوا من نزل أو التجأ إليهم من إخوانهم أو غيرهم، أو آووا أشياخهم وقاموا بأمورهم، ونصروا الدين بالتذكير والإرشاد والدلالة على الله، أينما حلوا من البلاد، أولئك بعضهم أولياء بعض في العلوم والأسرار، وكذلك في الأموال. فقد قال بعض الصوفية: (الفقراء: لا رزق مقسوم، ولا سر مكتوم). وهذا في حق أهل الصفاء من المتحابين في الله.
والذين آمنوا ولم يهاجروا هم أهل الأسباب من المنتسبين، فقد نهى الله عن موالاتهم في علوم الأسرار وغوامض التوحيد؛ لأنهم لا يطيقون ذلك؛ لشغل فكرتهم الأسباب أو بالعلوم الرسمية، نعم، إن وقعوا في شبهة أو حيرة، وجب نصرهم بما يزيل إشكالهم، لئلا تقع بهم فتنة أو فساد كبير في اعتقادهم. والله تعالى أعلم.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14